زمن اقليمي تاريخي يُشرف فيه اصحاب القرار في العالم على نزاعات سياسية ودموية في الساحة العربية، لرسم خرائط جديدة. ليست هي الصدفة التي قادت الى اشتعال الازمة في الخليج، علناً بين المملكة السعودية ودولة قطر، وضمناً بين تيارات متناقضة تتوزع فيها التموضعات بين سلطنة عمان والرياض والدوحة والكويت والامارات. تنحاز مصر الى الوقوف ضد قطر، للثأر من القطريين الداعمين لتنظيم "الاخوان المسلمين". كل العرب يرصدون الحملات السياسية والاعلامية المتبادلة المتصاعدة، التي وصلت الى حد خرق كل الخطوط الحمر. كأن الخليج قادم على تقسيم جغرافي في الضم والفرز. اعلان "آل الشيخ" في السعودية تبرؤ "الوهابيين" من "آل ثاني" يلامس في رمزيته "تكفير القطريين". لم تبلغ الازمة من قبل هذا الحد. فماذا بعد؟ كل الخيارات قائمة، ولم ينفع معها سوى اعلان الدوحة الولاء المطلق للسياسة السعودية، كما هي حال البحرين. الرياض تقرر السياسات الخارجية والدفاعية، وعلى الدوحة الالتزام من دون اعتراض. هذا ما ترفضه دولة قطر بشدة. ما يعني ان النزاع قائم، وقد يتمدد.
يكفي لواشنطن ان تتفرج هنا من دون تدخل، كيفما ذهبت غيوم الخليج امطارها ستتساقط في الحقول الاميركية. هذا ما يقتنع به الغرب كله. لا داع عندهم للقلق. لا، بل تزداد الحاجة للأميركيين الضامنين للجميع.
في الرياض يدور النقاش على قاعدة "ان الدوحة حليفة طهران وانقره"، أي انها تشكل خنجرا في خاصرة الخليج. لا تقبل قطر تلك الاتهامات. هي لم تتماشى مع السياسة الايرانية في سوريا، ولا اليمن. هذا كاف بالنسبة للقطريين للدلالة على حرية قراراتهم المنسجمة مع قناعاتهم. لكن السعوديين يعتبرون انه "عندما تحز المحزوزية تصبح الدوحة وسيطا لا طرفا ينتصر لباقي الخليجيين"، لا بل يرون قطر طرفا اساسيا الى جانب خصومهم واعدائهم. بالنسبة الى الرياض فإن الاصطفاف في الجبهة ضد طهران مسألة اساسية غير قابلة للنقاش، فيما تشترط الامارات ان تتخلى الدوحة عن دعم "الاخوان المسلمين". هذا ما لم تقدم عليه قطر التي فتحت مكاتب ارتباط لقوى "جهادية" عالمية في الدوحة، بإستثناء "داعش" فقط.
تعرف الدوحة ان الأميركيين يتفرجون، وغير جديين لا بإسقاط نظام سوريا، ولا الحرب ضد ايران، فلماذا تخوض قطر حروبا غير منتجة ضد طهران تعطي لخصمها السعودي الريادة؟.
المسألة تتعلق بقيادة ونفوذ يؤسس للمرحلة المقبلة. ابطال المسرح الخليجي هم امراء شباب سبقهم امير قطر تميم بن حمد ال ثاني الى استلام الحُكم، فيما هم يتحضرّون للاستلام لاحقا وخصوصا في السعودية. انها مرحلة سباق على قيادة الخليج عبر خوض معركة "توحيد البندقية".
الإيرانيون يرصدون تلك التطورات وينحازون الى الدوحة، لاسباب عدة، تبدأ من مصلحة طهران بكسر السعودية، وافشال مسعى الرياض بقيادة الخليج وحدها من دون اصوات معترضة، مرورا بواقع التعاون القائم عمليا بين الثلاثي : انقره، الدوحة، طهران. وصولا الى تثبيت وجوب الحل السياسي في سوريا. رغم كل الدور القطري في المعارك على الأرض السورية دعما للمجموعات المسلحة، الا ان القطريين دخلوا في عمليات المفاوضات وساهموا بنجاح التفاوض حول ملفات عدة، منها الاسرى ونقل المسلحين الى ادلب. يعني بإختصار: فهم القطريون اللعبة، سوريا لن تكون في ايدي الغرب، ولا الخليج، ولا تركيا، بل ضمن محور يمتد من دمشق مرورا ببغداد و طهران الى موسكو.
قد يعوّل ناشطون على الدور الاميركي في فرض النفوذ الغربي في سوريا على حساب اي دور إيراني او روسي. لكن اين هم الاميركيون؟ فقط تظهر قواتهم العسكرية في دفاعهم عن التقسيم، كما الحال شمالا وشرقا لفصل مناطق الاكراد عن الجمهورية العربية السورية، والحاق المناطق المحررة من "داعش" بالسيطرة العشائرية المتحالفة مع واشنطن. لكن الجيش السوري يتقدم سريعا جدا. تتهاوى "داعش"، وينشغل الاخرون بالمصالحات. الاهم ان نزاعا دمويا مفتوحا بين المجموعات انفسها، اسقط قتلى وجرحى وخسائر ضخمة.
ما بين تقدم "الحشد الشعبي" من العراق بإتجاه الحدود السورية، وتقدم الجيش السوري نحو حدود العراق عبر "التنف" او نحو مساحات اخرى، يفرض الروس والإيرانيون والعراقيون والسوريون واقعا عسكريا، وسياسيا جديدا يثبّت دمشق اولا، ويكرّس حلفاً قويا لن يسمح بإعادة سوريا الى اعوام 2013 و 2014... لكن ما هو موقف الروس من "الكانتونات" المطروحة؟ خصوصا ان موسكو تدعم الكرد بالعتاد العسكري. الاسابيع المقبلة ستحدد جغرافية الاطراف السورية. لم يعد هنا السؤال وحده. بل، هل تمتد بعثرة الخرائط الى العراق والخليج والاردن؟.